كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس.
وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير.
قلت: وتقدم أن من البغايا عَناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: 3].
ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.
والبغاء في الجاهلية كان معدودًا من أصناف النكاح.
ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب.
وإنما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُّ فهو ابنك يا فلان.
تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها.
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جُمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه، فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. اهـ.
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق.
وكانت عَنَاقُ صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلازانية أو مشركة} [النور: 3].
وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهرًا كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد: غلام.
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفَّوها حق البيان وما أتوا إلا إطنابًا في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها.
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء} موجه إلى المسلمين، فإن كانت قصة أمة ابن أُبَيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يُظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذٍ وإنما كان تذمر أمته منه داعيًا لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء.
وأيًّا مَّا كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمنًا في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارهًا مصرًّا على النفاق.
ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت: مَنْ يعذِرنا من محمد يغلِبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنًا بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سرًا لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علنًا، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه.
واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيهًا بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنى كان محرمًا تحريمًا شديدًا على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام.
وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها.
وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرمًا قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] توطئة لتحريم الخمر البتة.
وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله: {إن أردن تحصنًا} بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن.
ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به.
وذكر {إن أردن تحصنًا} لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن.
هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية.
وأنا أقول: إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول.
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلًا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن.
فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريمًا باتًا.
فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريمًا مطلقًا كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغيّ، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء.
وقد يكون هذا الاحتمال معضودًا بقوله تعالى بعده: {ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} كما يأتي.
وفي تفسير الأصفهاني: وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا.
وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا.
وقوله: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} متعلق ب {تكرهوا} أي لا تكرهوهن لهذه العلة.
ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر {إن أردن تحصنًا}.
و{عرض الحياة} هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضًا.
وأما قوله: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيّز الشرط، وهو صريح في أنه عَفْو عن إكراه.
والذي يشتمل عليه الخبر جانبان: جانب المُكرِهين وجانب المُكرَهات بفتح الراء، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن.
وأما الإماء المُكرَهات فإن الله غفور رحيم لهن.
وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول: غفور رحيم لهن والله لهن والله.
وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذرالمُكرَهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} [البقرة: 173].
5 وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يُكرِهون الإماء على البغاء.
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير مَن الشرطية، أي غفور رحيم له، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد.
وقوله: {فإن الله غفور رحيم} دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازًا واستغني عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره.
والتقدير: فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة.
والفاء رابطة الجواب.
وحرف إنّ في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعليل.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
ذُيِّلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره.
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات.
والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الإمتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريبًا بقوله تعالى: {لقد أنزلنا آيات مبينات} [النور: 46].
وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها.
وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة: {وأنزلنا فيها آيات بينات} [النور: 1] ثم قوله: {ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} [النور: 18] ثم قوله هنا: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} فكان كل واحد من هذه التذييلات زائدًا على الذي قبله؛ فالأول زائد بقوله: {يبين الله لكم الآيات} [النور: 18] لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله: {ومثلًا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين}.
فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفًا على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ووصف ما كان من هذه السورة مشتملًا على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مُقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيَّنات} يطابق قوله في أول السورة {وأنزلنا فيها آيات بينات} [النور: 1]، وقوله: {ومثلًا من الذين خلوا من قبلكم} يقابل قوله في أول السورة {وفرضناها} [النور: 1] على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديرًا وتصويرًا للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله: {وموعظة للمتقين} يقابل قوله في أولها {لعلكم تذكرون} [النور: 1].